الفكر العربي السياسي واختبارات العولمة
د.طيب تيزيني
كان التحول باتجاه العولمة قبل ما يزيد على العقد من الزمن مفاجئاً لمعظم العالم، خصوصاً في الصيغة التي ظهر فيها، متدفقاً ومصدعاً من حاول الوقوف في وجهه• وهكذا، تتالت عملية التدفق والتصديع، وبالتحديد بدءاً بيوغوسلافيا وانتهاءً بالعراق ومروراً بأفغانستان، وربما كذلك تأسيساً لاجتياح أو لاجتياحات جديدة• وفي هذا وذاك، كانت العولمة قد قدمت نفسها بخطاب سياسي جديد ظهر أنه لا يحتمل أنماطاً أخرى من الخطاب السياسي، سواء في أوروبا أو في مناطق أخرى من العالم، ومنها منطقة الوطن العربي•
ولعلنا نضع يدنا هنا على واقعة الباحثين والمفكرين والمؤرخين العرب أن يجيبوا على التحديات التي تطرحها عليهم• فلقد أخذ الفكر العربي عموماً وبصيغته السياسية على نحو الخصوص يتجه نحو التراخي والتضاؤل والتقاعس مع دخوله مرحلة الإخفاق النهضوي والتنويري العربي، ثم الانكسارات التاريخية التي أخذت تهز الوجود العربي اقتصاداً وسياسة وثقافة وجيشاً، خصوصاً منها ما ترافق مع تدخل الاستعمار والامبريالية في القرن التاسع عشر وبعده، وما حدث مع صعود المشروع الصهيوني الاستيطاني وبروز معاهدة سايكس-بيكو، ثم نكبة عام ،1948 وهزيمة الـ،67 ودخول إسرائيل بيروت عام ،1982 واجتياح النظام العراقي الكويت عام ،1990 ومعه وبعده حرب صدام مع إيران، وأخيراً وربما ليس آخراً الهزيمة التاريخية النكراء للعراق وللنظام العربي، كما للأمة برمتها• فبعد الهزائم ومعها، وجد الفكر العربي نفسه -وهو جزء منها وتعبير عنها- أمام حالة طريفة وفظيعة في دلالاتها ونتائجها، تلك هي أن ما ظل العرب يكافحون من أجله بكثير من التعثر وقليل من النجاح وعلى مدى تلك الأزمنة- جاء من يشككهم في جدواه وبقيمته التاريخية النهضوية، بل من يرغمهم على التخلي عنه وعلى التوجه نحو بدائل أخرى•
ولعل ذلك يفصح عن أن ما طمح العرب إلى تحقيقه منذ القرن التاسع عشر وهو النهوض والتنوير والتقدم ولم يتمكنوا، كان هو ما سبقهم إليه الأوروبيون، ومن ثم، يأتي التقاطع والتخالف والتصادم في المصائر التاريخية هناك وهنا• فلقد جاءت العولمة داعية إلى تفكيك ما أنتجه الغرب الحديث والعرب الوسطويون ومن قبلهم من منظومات في العقل والتقدم الاجتماعي والحداثة الفكرية والنهضة والتنوير••• إلخ، وإلى إقصائه بعيداً، وفي الوقت ذاته إلى إحياء كل المنظومات الفكرية والقيمية التي أثرت تاريخياً في الإعاقة والتضييق والتهميش والتزوير، من نمط الطائفية والعشائرية الضيقة والإثنية والمذهبية المنافية للعقل والإنسانية والقيم الدينية والأخلاقية والجمالية الرفيعة•
وبهذا الاعتبار، قد نعتبر التاريخ العربي من حديثه إلى راهنه بمثابة تاريخ للإحباط والانكسارات والانتصارات المنقوصة• والآن، إذا كانت العولمة قد أخذت تُلحف على استنفاد وتجاوز الفكر السياسي، الذي أسس لمفهومات الوطنية والقومية والدولة والوحدة الوطنية والقومية والتضامن البشري وغيره، فإن هذه الدعوة تأتي حيث لم يستطع العرب أن ينجزوا ذلك، ولكن بعد أن مر الغرب بهذا كله وأخذ يعلن عن ولادة الما بعديات، ما بعد العقلانية والحداثة والتقدم والفلسفة والدين السامي والإنسان والكفاح من أجل التقدم• نقول هذا مقرين بنجاحات ومكاسب وانتصارات هنا وهناك، إنما دون أن تشكل هذه، حتى الآن، حالة شاملة فاعلة بحسم•
وازدادت وتائر الإحباط العربي إضافة إلى تعاظم قوة علاقة اللاتكافؤ بين الغرب الأميركي خصوصاً وبين العالم العربي، مع الهزيمة المريرة للنظام العربي في العراق. لقد سقط النظام العراقي الاستبدادي، بعدما أسس لكثير من مظاهر التقدم التكنولوجي والصناعي العسكري والاقتصادي، ولكن دون أن يتوازى مع تقدم على الصعيد السياسي الديمقراطي والثقافي الإنساني• وإذ جاءت معركة بغداد مع هزيمة النظام عسكرياً، اتضح أن من كان عليه أن يحمي مظاهر التقدم تلك، وهو الشعب العراقي، تبين أنه مقصي مبعد مذلّ• وهذا ما فتح باباً واسعاً أمام التساؤل التالي: هل إذا ما أسس نظام سياسي فردي استبدادي مثل مظاهر التقدم المعنية، يجد نفسه في منأى عن السقوط مع أية عملية اختراق من الخارج (أو الداخل)؟
قبل مئة عام تقريباً، وضع مفكر عربي نهضوي هو نجيب العازوري في كتابه يقظة الأمة العربية الأطروحة التالية، التي تزداد الآن إشكالية وشراسة: هناك ظاهرتان اثنتان آخذتان في التصاعد على نحو متوازٍ وبكيفية لا تسمح بالتلاقي بينهما، وهما الظاهرة العربية والظاهرة اليهودية، الصهيونية• وسوف يتعين على هاتين الأخيرتين أن تتصارعا إلى أن تصرع الواحدة منهما الأخرى، وذلك بحيث إن هذا العراك سيحدد إلى درجة كبرى مصائر العالم كله•
إن راهنية هذه الأطروحة تبرز الآن بعمق، وتستدعي الكشف عن المدخل إليها، الذي لعله يتحدد في زرع اتجاهات الحرية والديمقراطية في المجتمع العربي•