بسم الله الرحمن الرحيم
في الحجِّ: دروسٌ وعبرٌ
الحجّ: أسرار:
جعل الله -تعالى- الكعبة قبلةً للمسلمين، واختار لها البلد الأمين، وشرفه بأن أقسم به في كتابه فقال -سبحانه-: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ} [التِّين: 3]. وجعله حرمًا آمنًا لا يسفك فيه دمٌ ولا يروع فيه مسلمٌ، ولا ينفر له صيدٌ، ولا تلتقط لقطته إلا للتَّعريف، وجعل الحجُّ المبرورُ ماحيًا للذُّنوب والخطايا موجبًا لدخول الجنَّة بسلامٍ، كما في حديث: «... والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنَّة» [متفقٌ عليه].
فالحمد لله -عزَّ وجلَّ- الَّذي جعل البيت الحرام مثابةً للنَّاس وأمنًا، وجعل الحجَّ من بين أركان الإسلام فريضة العمر، وأكمل -تعالى- به الدِّين، وأتمَّ به النِّعمة، وأنزل على نبيِّه -صلوات الله عليه وسلامه- {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].
قال العلماء: "الحج المبرور هو المقبول: وهو الَّذي جاء على الوجه الأكمل لاستيفاء الأعمال البدنيَّة والقلبيَّة".
والحج المبرور الَّذي لا رفث فيه ولا فسوق أي الَّذي ليس فيه كلامٌ فاحشٌ ولا خروجٌ عن آداب الشَّرع وحدوده، له في النَّفس وإصلاحها أكبر الآثار لما فيه من الانقطاع عن الأهل والوطن والأعمال الدُّنيويَّة والإقبال على الله -تعالى- وإحياء شعائر أعظم المرشدين والوقوف في مواقف أفضل المرسلين، لا حظَّ للنَّفس فيه.
فمن حج مثل هذا الحجّ المبرور، واستغرق قلبه بمثل هذا الإحساس والشُّعور، رُجي أن يُمحى ما كان علق بنفسه من آثار الذُّنوب الماضيَّة.
يقول الشَّيخ محمَّد بهجة البيطار: "عند ذلك تنبعث النَّفس إلى حسن الطَّاعة والاستقامة على طريق الهداية، فيصح أن يقال: إنها ولدت ولادةً جديدةً".
إنَّ حكَم الحج كثيرةٌ، وفي كلِّ واحدٍ من أعمال المناسك تذكرةٌ للمتذكر وعبرةٌ للمعتبر، وقد شرَّف الله البيت الحرام بالإضافة إلى نفسه، ونصبه مقصدًا لعباده وجعل ما حوله حرمًا لبيته تفخيمًا لأمره، وأكد حرمة الموضع بتحريم صيده وشجره، وفي الطَّواف بالبيت تشبه بالملائكة المقربين الحافِّين حول العرش، الطَّائفين حوله، وما القصد طواف الجسم فحسب، بل طواف القلب بذكر الرَّبِّ.
وفي السَّعي بين الصَّفا والمروة إظهار للخلوص في الخدمة ورجاء للملاحظة بعين الرَّحمة. وفي الوقوف بعرفة وازدحام الخلق وارتفاع الأصوات باختلاف اللغات تذكر لاجتماع الأمم بين يدي الله -تعالى- يوم القيامة.
وفي رمي الجمرات طاعةٌ للرَّحمن وانقياد لأمره وإرغام للشَّيطان وقصم لظهره، وفي كلِّ مشعرٍ وكلِّ شعيرةٍ حِكَمٌ ومقاصدُ نبيلةٌ.
هذا قليلٌ من كثيرٍ، وغيضٌ من فيضٍ من مقاصد الحجِّ وحكمه وفوائده.
وما أفضل الحجّ وشدَّ الرِّحال إلى المسجد الحرام في البلد الحرام موطن الرَّسول ومهبط الوحي ومطلع النُّور.
ما أعظم الحجّ في عاصمة الإسلام ومهوى أفئدة بنيه ومجتمع المسلمين كلّ عامٍ من جميع أقطار الأرض على تعداد أجناسهم وتنوع لغاتهم وتنائي بلدانهم يجتمعون؛ ليشهدوا منافع لهم روحيَّةً وجسديَّةً، دينيَّةً ودنيويَّةً، فضلًا من الله ونعمة.
ما أجمل رؤية الحجاج محرمين وملبين، ولله درهم طائفين وعاكفين وراكعين وساجدين وساعين بين الصَّفا والمروة ومتعارفين متراحمين في بيت الله -عزَّ وجلَّ-، يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا.
إنَّ ممَّا ينبغي تأكيده أنَّ للحجِّ في شعائره حكمًا وأسرارًا، وأن في كلِّ عملٍ من أعمال مناسك الحجِّ تذكرةً للمتذكر وعبرةً للمعتبر، إذا انكشف بابها ظهر من أسرارها ما يقتضيه صفاء قلبه وغزارة علمه وفهمه.
ثمَّ إنَّ الحجَّ هو مؤتمر المسلمين العام الَّذي يعقد كلَّ عامٍ في منزل الوحي وفي البلد الأمين، وفي المسجد الحرام مهد الإسلام ومطاف المسلمين، فما يظهر فيه من ألفةٍ ومحبةٍ يفوح شذى عرفه في سائر الأقطار الإسلاميَّة، فيكون له أجمل وقع في نفس كلِّ مسلمٍ، فلا عجب إذا لبى المسلمون لنداء ربِّهم..
الحجّ: دروس:
هذا هو الحجُّ، حلُّ وترحالٌ، وسفرٌ وانتقالٌ وطوافٌ وسعيٌ فيهما إسراعٌ ثمَّ تمهلٌ، حتَّى إنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- اتخذ من الطَّواف مظهرًا لإرهاب المشركين وإظهار قوة المسلمين في عمرة القضاء وأهل مكة ينظرون يظنون بالمسلمين الضَّعف والتَّراخي.
يقول الشَّيخ محمود علي أحمد: "إنَّ من تمام الحكمة الرِّياضيَّة في الحجِّ مجيئه في سائر فصول السَّنة صيفًا وشتاءً".
وما بين ذلك مرتبط بالأشهر القمريَّة؛ ليعتاد المسلم العمل والجهاد والسَّعي في كلِّ وقتٍ غير عابئ بتقلب الفصول وتبدل الأجواء وليألف النِّظام والتَّرتيب حيث حددت بعض شعائر الحجِّ بزمنٍ معينٍ ووقتٍ معلومٍ كالوقوف بعرفة والإفاضة إلى مزدلفة وروي الجمار.
أليس الحجُّ في حكمته هذه خليقًا بعناية المربين والرِّياضيين ومن يريدون لأمَّتهم قوةً ونخوةً وشجاعةً وعزَّةً {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
لقد رصدت الدَّولة الأموال على الرِّياضة البدنيَّة والتَّدريبات العسكريَّة، فالرَّياضة قوةٌ ورجولةٌ ومروءةٌ.
وربط الرِّياضة بالعبادات مطلوب لتشترك العاطفة والشُّعور مع القلب في أدائها، فتكون الرِّياضة قوةٌ بدنيَّةٌ وعبادةٌ روحيَّةٌ لها في الدُّنيا منافعها ولها في الآخرة ثوابها.
وإذا غرق النَّاس في المادة، بحيث تشغلهم عن الإنتاج النَّافع في الحياة، فإنَّ الحجَّ يوجه المادة لخدمة الحقِّ.
إنَّ الإسلام لا يكتفي بالنَّظريات يقررها ولا يقف عند حدِّ الدَّعوة للحقِّ، بل يقرن القول بالعمل والتَّطبيق الفعلي، لذا دعا إلى التَّآلف والتَّعارف والتَّعاون ثمَّ أوجد للتَّعارف اجتماع الصَّلاة، وأوجب الجمعة والعيدين لأبناء البلد الواحد، وأوجب الحجَّ ليكون مؤتمر البلاد الإسلاميَّة.
وقد شبه أحد المفكرين مكة في موسم الحجِّ بمقر هيئة الأمم للمسلمين.
لقد عمت الفوضى في منازلنا ومجتمعاتنا ومؤتمراتنا حتَّى سئمنا حالتنا وأصبحنا في زمن يحتاج إلى علاجٍ عاجلٍ ودواءٍ شافٍ يقضي عليها القضاء المبرم، ويبدل حالنا من فوضى مدمرة إلى نظام معمر ومن هياجٍ مفرقٍ إلى هدوءٍ جامعٍ.
فإذا ما بحثنا عن هذا العلاج وجدناه شاخصًا أمامنا في تلك الفريضة العظمى -فريضة الحجِّ- فضلًا عمَّا في إحرام الحجَّاج بلباسٍ واحدٍ وطوافهم في وقتٍ واحدٍ وتلبيتهم لدعوة مولاهم في وقتٍ معينٍ واحدٍ بأدعيةٍ واحدةٍ، من وحدةٍ دينيَّةٍ تحتم عليهم الاتحاد والتَّماسك.
إنَّ في فريضة الحجِّ درسًا عمليًّا يدعو إلى النِّظام والتَّرتيب وضبط الميعاد، ومتى صبغت أعمالنا ومجتمعاتنا ومنازلنا بصبغة النِّظام والتَّرتيب أتت بالفائدة المرجوة منها وأصبحنا في أحسن حالٍ بفضل الله -تعالى- ثمَّ بفضل إحياء شعيرة الحجِّ في نفوسنا.
وفضلًا عن تيسير السُّبل وتمهيد الطُّرق لراحة الحجَّاج، فإنِ استتباب الأمن والطُّمأنينة على النَّفس والمال، كان لهما اليد الطولى في ازدياد عدد الحجَّاج سنة بعد سنة.
وإنَّ ما نسمعه مما تفيض به ألسنة الحاجِّ من قصصٍ وحكاياتٍ وما نقرأه في صحفنا ومجلاتنا عن تعميم الأمن وكفالة الطَّمأنينة في هذا البلد الأمين ليجعلنا نؤمن بانفراده في هذا الأمر المحروم منه غيره من سائر البلاد الشَّرقيَّة والغربيَّة.
وليس بغريبٍ على بلدٍ ركن إلى الدِّين الإسلامي ورجع إليه وطبق تعاليمه الصَّحيحة أن يكون هذا حاله سراجًا منيرًا يهتدي به كلّ ضالٍّ بعيد عن الطَّريق المستقيم؛ ليحذو حذوه وينسج على منواله..
الحج: ذكريات:
الحجُّ رحلةٌ دينيَّةٌ ورياضةٌ روحيَّةٌ، طالبت به الأديان على اختلاف المعتقدات عبر أزمنة عديدة، فالمصريون القدماء كانوا يحجُّون واليونان والصِّينيون والهنود والنَّصارى واليهود كلُّ أولئك يحجُّون، لما في الحجِّ من مزايا روحيَّةٌ لا تنال بغير الحجِّ.
وكان العرب قبل الإسلام بقرون يحجُّون إلى الكعبة ويأتون بأعماله من طوافٍ وسعيٍ وغير ذلك من شعائر الحجِّ، فجاء الإسلام وأمر بعض الشَّعائر ممَّا يتفق مع الشَّرع والمطهر وأنكر بعضها.
وأصبح الحج ركنًا من أركان الإسلام الخمسة وليس ذكر الحجِّ في آخر الأركان (الشَّهادتان، الصَّلاة، الزَّكاة، الصَّوم، الحجّ) إلا لأنَّه عبادة العمر وختام الأمر وتمام الإسلام وكمال الدِّين.
ثمَّ إنَّ في الحجِّ فوائدَ دينيَّةً عديدةً، فالحاج إذا نوى السفر من وطنه استحضر أعماله واستذكر سيئاته وندم عليها وتهيئت نفسه لقبول الخير، فكان في ذلك طهارةً من ذنوبه وحسن استعداد لطهارة نفسه وقربها من الخير وبعدها عن الشَّرِّ.
فإذا تقدم في أعمال الحجِّ فأوَّل ما يواجهه الإحرام وهو أن يتجرد الحاج من كلِّ ثوبٍ مخيطٍ ويلبس إزارًا ورداءً ويلبس في رجليه نعلين. واختيار اللون الأبيض في الإحرام فيه دلالة على الطَّهارة والنَّظافة الحسيَّة والمعنويَّة.
كما أنَّ بياض الحجُّاج يدلُّ على بياض نفوسهم، شعارهم الدَّائم هو التَّلبية (لبيك اللهمَّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك).
والحاجُّ وهو في هذه الحالة، كلما قابل أحدًا أو دخل مجتمعًا أو صعد أو هبط كرر: (لبيك اللهمَّ لبيك)، ليذكر دائمًا موقفه أمام ربِّه وليحفظ على نفسه طهارتها وصفاءها وشوقها إلى خالقها.
يقول الأستاذ احمد أمين: "ولا يزال الحاجُّ على هذه الحالة النَّفسيَّة بين إحرامٍ وتلبيةٍ، وتفكرٍ في الله وتضرعٍ إليه حتَّى يدخل مكة" .
والحاجُّ في هذا كلِّه يرتاض رياضةً بدنيَّةً إلى جانب هذه الرِّياضة الرَّوحيَّة، فهذا العيش اليسير والملبس العادي والحركة الدَّائمة والسَّفر ومتاعبه يجعل من الإنسان رجلًا قادرًا على احتمال المشاق، غير منغمسٍ في النَّعيم الَّذي يذهب بالرُّجولة.
فإذا شاهد الحاجُّ مكة ثارت في نفسه الذِّكريات، هذه مكة الَّتي كانت واديًا غير ذي زرعٍ.
هذه هي مكة الَّتي أخذت شهرتها تنمو وتتسع حتَّى قصدها النَّاس من كلِّ فجٍّ عميقٍ.
هذه هي مكة الَّتي سكنتها قريش واعتزت بما كان في يدها من مفاتيح الكعبة.
هذه هي مكة الَّتي ولد فيها رسول الهدى -صلَّى الله عليه وسلَّم- وتتابع الوحي فيها ثلاث عشرة سنة.
هذه هي مكة الَّتي جرت فيها الأحداث الجسام والمحاولات الدَّعويَّة والاجتماعيَّة والعسكريَّة.
هذه هي مكة الَّتي هاجر منها رسول الله -عليه السَّلام- بعد أن ألح قومه في إيذائه وأصحابه.
هذه هي مكة الَّتي ظلَّت مقصد النَّاس في حجِّهم من عهد إبراهيم الخليل -عليه السَّلام- إلى اليوم.
كلُّ هذه الذكريات وغيرها تملأ النَّفس وتأخذ بمجامع القلب وتدخلها في موسم الحجِّ، فترى عجبًا أي عجب، مئات الألوف من النَّاس في ثوب الإحرام مغمورون بالشُّعور الدِّيني، يعجُّون بالدُّعاء والتَّلبية وترى معرضًا يفوق كلّ معرضٍ من الأجناس البشريَّة مختلفي الألوان، مختلفي الألسنة، مختلفي العادات لكن وحدهم العقيدة والعبادة والأخوة.
يشيع في هذا الجمع الحبّ والإخاء والمساواة والتَّعاطف.
هنا -في مكة- تتساوى الرُّؤوس وهنا يقوم الإنسان قيمته الذَّاتيَّة، فلا فضل لأحدٍ على أحدٍ بماله أو جاهه أو لونه أو أي غرضٍ دنيويٍ .
هذه كلُّها ذكريات تمر بذهن الحاجِّ وهو في موسم الحجِّ، تقبل الله -تعالى- من المسلمين حجّهم وأعاده على المسلمين بالخير والسَّعادة والعزَّة..
الحجّ: فرص:
مكة المكرمة: كانت ومازالت العقبة الكؤود في سبيل أعداء الإسلام ومكائدهم وأعمالهم التَّخريبيَّة؛ لأنَّها محضن الكعبة المشرفة، ومهبط الوحي الإلهي، ومثابة الوافدين، ومهوى أفئدة المسلمين من كلِّ مكانٍ في العالم قريبة وبعيدة.
إنَّها المحور والمركز والمبدأ والمنتهى والملتزم والرَّابطة لكلِّ مسلمٍ مهما نأت به دياره ومهما اختلفت لغته وجنسيته عن إخوانه المسلمين في شرق الدُّنيا وغربها.
والمسلمون يقرأون اعترافات الكائدين لدينهم ولقبلتهم وهم غافلون عن مقاصدها وأهدافها وعلى حركات الحاقدين الصَّريحة والخفيَّة.
يقول القسيس وليم جيفور بالكراف: "متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب أمكننا حينئذ أن نرى العربي يندرج في سبيل الحضارة الَّتي لم يبعده عنها إلا محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- وكتابه.
ويقول الكاتب الرُّوسي كليموفتش: "إنَّ الحجَّ مصدر دخل لتجار العربيَّة وإقطاعييها، وإنَّ القرآن إنَّما ألِّف لإرضاء الإقطاعيين والتُّجار".
إنَّ هذه المزاعم من أنَّ موسم الحجِّ فرصة للإقطاعيين والتجار وأنَّ القرآن ألَّفه محمَّد أو ألفه المسلمون إرضاءً للإقطاعيين منهم، فذلك -والحديث للأستاذ محمَّد أحمد جمال- لصرف حجًّاح بلادهم والبلاد الدَّائرة في فلك الشُّيوعيَّة الدُّولية عن أداء هذه الفريضة الجامعة المانعة، والاحتفاظ بنفقات الحجِّ لزيادة الإنتاج، إذ لا ضرورة للحجِّ، بل لا ضرورة للدِّين كله، فهو بزعمهم أفيون الشَّعب!!.
وللأسف وتجاوبًا مع مقاصد الاستعمار المتربص بالمسلمين الدَّوائر، أوصى (البهاء) مؤسس البهائيَّة بهدم الكعبة المشرفة؛ لأنَّها الجامعة المانعة، الجامعة لشمل المسلمين على اختلاف الدِّيار والألسنة والألوان، والمانعة من تصدعهم وتمزقهم إذ يتجهون إليها أكثر من خمس مرَّاتٍ في اليوم لا يذكرون إلهاً إلا الله الواحد، ولا أمَّة إلا المسلمين في كلِّ مكانٍ، ثمَّ يحجُّون إليها كلَّ عامٍ فيلتقي الأباعد والأقارب، السُّود والبيض، لا نسب بينهم إلا الإسلام ولا تحية لهم إلا الإسلام.
فالحجُّ – كما يقول الأستاذ محمد الغزالي في كتابه (دفاع عن العقيدة الشَّرعيَّة)- عملٌّ ينغص على المستعمرين استقرارهم ويوهن كيدهم، فإنَّ المسلم في داكار على شواطئ الأطلسي عندما يلتقي بأخيه في سنغافورة والملايو على شاطئ الهادي، يخترق نطاق العزلة الَّتي يريد الاستعمار حبسه وراء أسوارها كي يتمكنوا من الإجهاز عليه.
إنَّ تقطيع أوصال العالم الإسلامي وجعل كلُّ قطرٍ عربيٍّ غريباً عن الأخر، غاية أولي للسَّياسية الصَّليبيَّة، والحجُّ عبادةٌ تلقائيَّةٌ لجميع المسلمين من الأرجاء القصيَّة في يومٍ واحدٍ، ومكانٍ واحدٍ. فإذا ظهرت تعاليم دينية -كما تزعم- تسقط هذه الفريضة، وتذود الجموع عنها، فهذا ربحٌ عظيمٌ للاستعمار، وخطوةٌ فسيحةٌ لتحقيق أغراضه.
وبعد. فإنَّ الحجَّ فرصةٌ كبرى للصَّلاح الفردي والإصلاح الجماعي، وعلى قادة المسلمين من أمراء وعلماء أن يعملوا صادقين للانتفاع من هذه الفرصة المتكررة كلِّ عامٍ مرَّةً لتحقيق عزَّة العالم الإسلامي.
إنَّ العالم الإسلامي اليوم يعيش مرحلةً مهمَّةً في مواسم الحجِّ، ففي كلِّ عامٍ يحجُّ أناس جددُ ومسلمون لم يسبق لهم الحجّ.
إذًا، لم لا نستفيد من مقدم هؤلاء، في مجال الإعلام الإسلامي؛ لإخراس ألسنة المستعمرين وكشف مزاعمهم ومخططاتهم.
إنَّ العالم الإسلامي وهو يشعر بالوحدة والعزلة ليسره أن يسهم في كلِّ مكانٍ بالتِّعريف بأصوله وقيمة، بأرضه وجبله، بكلِّ بقعةٍ منه على هذه المعمورة، ومن خلال كلِّ ثقافةٍ ولغةٍ ممكنةٍ.
ولذا ينبغي تكثيف الجهود والطَّاقات وحفظ الهمم والإمكانات.
وقد آن الأوان!!!.
الحجّ: عبر:
الحجُّ هو مؤتمر المسلمين الجامع، الَّذي يتلاقون مجردين من كلِّ آصرةٍ سوى آصرة الإسلام، في هذا المحفل الكريم، متجردين من كلِّ سمةِ إلا سمة الإسلام، عرايا من كلِّ شيءٍ إلا من ثوبٍ غير مخيطٍ، ولا يميز فردٌ عن فردٍ، ولا قبيلةٌ عن قبيلةٍ، ولا جنسٌ عن جنسٍ، فالإسلام وحده هو النَّسب الجامع، الَّذي يمثل وحدة المسلمين.
إنَّ من نعم الله -تعالى- علينا في هذا الزَّمن أن يسر لنا سبيل الوصول إلى بيته الحرام، حتَّى غدا من يسكن أبعد نقطة في العالم يجد نفسه في بضع ساعات في بيت الله الحرام بالمقارنة مع ما كان يتحمل من مشقةٍ وأخطارٍ فيما سبق، أضف إلى ذلك نعمة الأمن والطَّمأنينة التي يعيشها الحاجُّ.
فعلى الإنسان أن يغتنم هذه الفرص ويبادر في أداء فريضة الحجِّ، وليعلم الحاجُّ أنَّ للحج معانٍ ومقاصدَ ودلالاتٌ ينبغي أن يتعرف عليها.
إنَّ في إحرام العبد في ردائين أبيضين تذكيرًا له بإدراجه في الكفن، فهذا سفرٌ إلى عرفات، وذاك سفرٌ إلى الموقف العظيم، فإذا لبست الإحرام ذكرك بالكفن الأبيض.
ومن معاني الإحرام المساواة، فالغني والفقير والشريف والوضيع كلُّهم يلبس الإحرام بلا تمييزٍ.
إنَّ الحجَّ هو ملتقى المسلمين من كلِّ مكانٍ، ومن كلِّ فجٍّ عميقٍ، فيه يجتمعون على صعيدٍ واحدٍ، ويدعون ربًّا واحدًا، كلُّهم قد ترك أهله وماله، وجاؤوا طمعًا في مرضاة ربِّهم.
أليس هذا الرُّكن يدلُّ على عظمة هذا الدِّين الَّذي وحَّد القلوب، بحيث تلهج بذكر الله (لبيك اللهمَّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك).
وفي هذا الموقف العظيم يقف النَّاس في خشوعٍ وخضوعٍ، فلا عظمة إلا لله، ولا كبرياء إلا له -سبحانه-.
لذلك كان يوم عرفة هو ركن الحج الأعظم حيث يتجلى الله -تعالى- لعباده، فينزل إلى السَّماء الدُّنيا نزولًا يليق بجلالة ويباهي بهذا الجمع العظيم ملائكة السَّماء، حيث يقول: «انظروا إلى عبادي جاءوني شعثًا غبرًا» [رواه ابن خزيمة 2839 وصحَّحه الألباني].
إنَّه الموقف العظيم الَّذي تنهمر فيه الدُّموع وتسكب فيه العبرات.
هذه بعض معاني الحجِّ، وهي غيضٌ من فيضٍ وقليلٌ من كثيرٍ، ومن كان هناك من الحجيج فسوف يعيش هذه الأجواء الطَّاهرة على صعيد عرفات وفي سهل مزدلفة وبين جبال منى وحول البيت الحرام.
لقد كان من عجائب حجّة رسول الهدى -عليه السَّلام- أنَّه خطب في أكثر من مائةٍ ألف حاجٍّ غير النِّساء والأطفال - كما يقول الشَّيخ محمد عبد الله بن معيذر- ومع أنَّه لم يكن عنده مكبر صوت إلا أنَّ الله -تبارك وتعالى- أسمعهم جميعًا وهم في أماكنهم، وقال -عليه السَّلام- في يوم النَّحر لأصحابه: «لتأخذوا مناسككم. فإنِّي لا أدري لعلي لا أحجُّ بعد حجتي هذه» [رواه مسلم 1297].
فعرف الصحابة أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يودعهم إلى لقاء ربِّه، فارتفع البكاء والضَّجيج وكثر النَّحيب، فسميت حجَّة الوداع.
إنَّ المؤمن ليقف أمام خطبة الوداع، فلا يكاد ينتهي من استعراض ما تحمله في ثناياها من حقائقَ كبيرةٍ وتوجيهاتٍ عميقةٍ وقيمٍ ومبادئ .
يقول -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].
أعلن -سبحانه- إكمال العقيدة، وإكمال الشَّريعة فهذا هو الدِّين.
اللهمَّ تقبل منَّا أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم، وتقبل من الحجَّاح حجَّهم وأعدهم إلى ديارهم وبلادهم سالمين غانمين آمين.. آمين..
الدُّكتور / زيد بن محمَّد الرّماني
عضو هيئة التَّدريس بجامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة
دار ابن الأثير